24-09-2017
هدف النهار
التعري الرخيص للصحافة الرياضية
مرزوق العجمي
ما لم يتقبله مني زملائي في الوسط الإعلامي منذ اندلاع أزمة الرياضة في العام 2007، “دعوتي الصادقة لتغليب مبادئ الصحافة السامية والقيم المهنية العالية ونبذ العنصرية والطرح الطبقي”، ولذلك لا تبدو مهمتي سهلة في العيش بسلام، بسبب النيران الصديقة التي تأتي من زملاء المهنة، أكثر من نيران من نختلف معهم في الرأي بالمجتمع الرياضي.
وحتى لا ننحرف عن الهدف الرئيس من هذه الزاوية، لا أود التطرق للأسباب، فلربما يكون من بينها أنني موصّل سيئ للمعلومة، ولكن المسألة أصبحت أكثر تعقيداً اليوم، بعد أن صار انهيار الصحافة الرياضية ظاهرة، ما يعني أن عدم التطرق لها منا معشر الإعلاميين، سيجعلنا “جميعاً” شركاء فيما وصلنا إليه من انهيار، ليس في قيم المهنة (الحقيقة والدقة، الاستقلالية، الإنصاف والحياد، الإنسانية، المساءلة) فحسب، وإنما في قيم إنسانية أعلى سمواً (العدل، الصدق، المساواة)، وكذلك قيم عليا كانت حتى وقت قريب لا تحتمل إلا الموت أو الحياة (اسم الدولة، العَلَم، السلام الوطني).
فالأزمة الرياضة (2007-2017) أنجبت لنا جيلاً من الإعلاميين وَصْفهم الوظيفي “ازدراء الآخر” بمعنى الكلمة، بعضهم لا ذنب له، لأنه وجد “مؤسسته” قائمة على هذه المدرسة، والبعض الآخر وجد في السنوات الخمس الأخيرة “تحديداً” بيئة آمنة شرعنت له التبرج القبيح.
غير أن الأكثر فُحشاً هو من وجد نفسه “فجأةً” ودون مقدمات “صانع قرار” دفعة واحدة! نعم، “صانع قرار” منذ اليوم الأول للعمل في الصحافة الرياضية، ولم يكن الأمر يحتاج منه إلا بضع مقالات شتم، حتى يصبح الأمر واقعاً لا مفر منه…
هذه حقيقة مؤلمة.
ولست هنا للتقليل من إمكانات هذا أو للحجر على طموح ذاك، لكن ضوابط الطبيعة وقواعدها في المهن تقضي بأن يمر الجميع على مراحل “التدريب، التدرج، فالتقاعد”، وهي القواعد والضوابط ذاتها التي يمر بها الإنسان “الولادة، النشأة، فالشيخوخة”.
هؤلاء الموظفون في المؤسسات الصحافية، قد يكونون عناصر ناجحةً في المجتمع، كأن يكون أحدهم عبقرياً في الفيزياء النووية، أو أديباً كبيراً، أو بارزاً في أي مجال آخر، لكن قطعاً ليس من بينها الصحافة الرياضية.
هؤلاء الموظفون، لا يقدّرون جيداً قيمة: لغة الصحافة، الوقت، الصورة، العنوان ومهارات البحث والتحقيق، التي يفترض أنها من مهارات الصحافي الطبيعي الذي اعتاد على قواعد وضوابط “طبيعة المهنة”.
وقد أجبرت برامج التلفزيون و”تويتر”، المجتمع الرياضي على “تقبل هؤلاء الموظفين” بمسمى: ناقد، صحافي، إعلامي، ليصبح الأمر واقعاً مفروضاً عليه (المجتمع).
ووجد بعض المسؤولين ضالتهم في هذا الصنف ليحولوه (وبإغراءات متعددة)، إلى مدفع في وجه إعلاميين رياضيين “حقيقيين” ذنبهم أنهم يحلمون بالقيام بواجبهم في السلطة الرابعة، في مجتمع رياضي إعلامي عُرف بالرأي والرأي الآخر.
وهذا هو الانحراف الخطير نحو الهاوية الذي نحذر منه مراراً وتكراراً.
إن مسألة قبول هذا الواقع المفروض، من بيئات إعلامية تنصلت من واجباتها في التدريب والتأهيل، أمر محزن لماضي الصحافة وحاضرها ومستقبلها في الكويت، وإن القبول بدخول هؤلاء “كإعلاميين” في مجتمع الصحافة الرياضية، أشبه بمن يقول بأن خالد العدوة، وليد الطبطبائي وحسين القلاف يمكن تصنيفهم إعلاميين سياسيين، لمجرد أنهم كتبوا زوايا في صحف يومية، وأن شأنهم شأن حسين عبدالرحمن، محمد عبدالقادر الجاسم وعدنان الراشد.
أنا لا أتكلم عن مصطلحات (صحافي أو كاتب عمود أو مغرد) فحسب، بل أتكلم عن غياب دور المؤسسة في “التدريب والتدرج” ومخرجاتها المتواضعة “مهنياً”، فكانت النتيجة ظهور طبقة موظفين (لا إعلاميين) قفزت فوق مرحلة “التدريب والتدرج”، ليصبحوا كتاب أعمدة ومحللين في التلفزيون، ومغردين مؤثرين في مجتمع رياضي معظم أفراده يثيرون الشفقة.
هم مجرد موظفين في مؤسسات، صُنفوا إعلاميين رياضيين، “قبل” أن يعرفوا، ولو ليوم واحد، معنى الخروج من البيت منتصف الظهيرة إلى الجهراء أو الأحمدي لحضور مباراة بائسة في فئة الشباب، وكتابة تقرير مطول (تحت وقع عقارب الساعة واتصالات لا تتوقف من مسؤول لا يعترف بالأعذار)، وفي اليوم التالي يفاجأ بعشرة أسطر فقط في كعب الصفحة!
هم مجرد موظفين في مؤسسات، صُنفوا إعلاميين رياضيين، “قبل” أن يعرفوا معنى عبارة “8 عمود” أو “40 سنتميتراً” أو “600 كلمة” أو “تمهيدي وسطرين”.
هم مجرد موظفين في مؤسسات، صُنفوا إعلاميين رياضيين، “قبل” أن يكتبوا تقديماً لمباراة أو تحليلاً لحصة تدريبية أو ينقلوا مؤتمراً، وقبل أن يعرفوا الفرق بين “نقل الحدث” كما هو، وإبداء الرأي فيه.
وبجهود هؤلاء الموظفين وإعلاميين آخرين (فَجَروا، مخيرين أو مأمورين، في الخصومة لا في الرأي) راجت في السنوات العشر الأخيرة، وعلى نحو غير مسبوق (كماً ونوعاً) لغة الشتم والتخوين والتواطؤ والتآمر وتوجيه الرأي العام وإقصاء وازدراء الآخر، مستخدمين كل الوسائل داخل مؤسساتهم الإعلامية وخارجها، فبرز على السطح “إعلام الشنطة” كساعات البث التلفزيوني المعروضة للبيع بطاقمها من محللين ومقدمين، وصحف إلكترونية متواضعة فنياً وتحريرياً، ثم “طامة الطامات” ما كشفه الزميل جاسم أشكناني في برنامج “اللوبي” في أكتوبر 2016، واصطلح على تسميته “فيلا العديلية”، وهو فريق من فنيين وإعلاميين (خليط منموظفين وصحافيين سابقين) هدفه توجيه الرأي العام!
كل ذلك حدث تحت عنوان “الإصلاح”!
وبجهود هؤلاء الموظفين (وإعلاميين آخرين غلبت على قراراتهم العاطفة والمجاملة واللامهنية) خلقوا تكتلاً مكّنهم من مفاصل العمل الصحافي الرياضي على جميع الصعد، ومحطات التلفزة، وغيرها.
إن أقصى ما بلغته الصحافة الرياضية من فساد في الفترة التي سبقت العام 2007، هو “الاصطفاف المصلحي”: سفرة سياحة، سيارة، خصم محترم، تأثيث، وزن في المطار، شرهة موسمية، جاخور، بينما بلغ الفساد في السنوات العشر الأخيرة حداً غير مسبوق، فعلاوة على ما ذكرناه من مكاسب مادية، نال الفساد أخيراً من قيم إنسانية وأخلاقية لا يمكن أن تكون ثمناً لقراءة “مزاجية” لقانون أو لائحة، أو تلبيةً لتعليمات ناشر، أو حتى إملاءات متنفذ، وإلا من يقول لي ما ذنب مواطن فصل من عمله، وأعاده القضاء بعد 3 سنوات بحكم من أعلى محكمة في الدولة، ليفاجأ المواطنبالصحف في اليوم التالي، تجتزئ من منطوق الحكم، عنواناً ينتشلها من “مأزقها الأخلاقي”، بدلاً من عنوان ينتصر للمظلوم؟ ولِمَ تصمت الصحافة أمام من ازدرى نصف المجتمع في التلفزيون “الوطني”، بل ورفض الاعتذار ثم عاد ضيفاً؟ أَعجزت تلك الصحيفة عن البحث عن ممسك على خصومها الرياضيين، غير تهمة “الجلوس خلف الدلال”… (عادة معظم الكويتيين في دواوينهم)؟ أَوَلَم تنتقصصحيفة (أخرى) أسرة بأكملها برسم كاريكاتوري مقيت؟ وثالثة بلغ فيها شذوذ الرأي أن تهكمت على مريض بالسرطان، لمجرد أنه شاهد مباراة من المدرج!
ما علاقة كل ذلك بالميثاق الأولمبي أو بالقانون المحلي؟
إذا كان هذا هو تعاطي الصحافة مع أزمة “رياضة”، هي في منظور بعض النخب لا تتعدى أزمة “طمباخية”، فكيف يمكن أن نثق في تعاطيها مع أزمات أخرى تمس مفاصل الوطن والمواطنوهمومهما؟ ولعل أقرب الأمثلة إلى الذاكرة الطريقة التي تناولت فيها بعض الصحف قصة “البدون” الذي أحرق نفسه أول من أمس.
أما القدرات الفردية لبعض الإعلاميين، فحدث ولا حرج: بدءاً بمن قال مرةً لمسؤول “يا وجه استح”، ولم يقلها بعد ذلك لغيره، مروراً بمن يحسب أن الاكتتاب هو الاكتئاب، وانتهاءً بالذي يكتب “جملتاً وتفصيلاً”، وزد عليهم مجموعة “مشفّح” لا تنتمي “أصلاً” لمؤسسات إعلامية، تثير السخرية، استفادت من صحف إلكترونية متواضعة، ودخلت الصحافة الرياضية من النافذة، تتحدث بثقة في الأرض والبحر والهواء بمسمى “إعلامي”، تفرز الناس “وطنيين وغير وطنيين” وتصنف مؤسسات إعلامية عريقة بين مهنية وأخرى غير مهنية… وهكذا!
وفي خضم هذا الواقع المرير البائس، الذي انحدرت معه ذائقة المتلقي، وحتى لا تموت الصحافة الرياضية الحقيقية، لابد أن نقاوم هذا التيار الجارف، ونعزز القيم المجتمعية والمهنية، ونواصل البحث عن مواهب صحافية جديرة بفرصة لإثبات وجودها، تستطيع في السنوات المقبلة الوقوف في وجه “إعلام الشنطة” وملحقاته.
مواهب علّها تساعدنا في العمل على اتساع رقعة التنوير الذي ننشده بعد هذه السنوات الظلامية المتتابعة، في زمن أثبتت فيه التجربة لا النظرية، غياب الرمز الصحافي الجدير بالاحتذاء… أو قل أنه ليس من بين الأحياء على أقل تقدير.
دعونا نبحث عنهم (المواهب)، فهناك مغردون كنت أتمنى أن يكونوا صحافيين في فترة عمرية مبكرة مثل: معن الرشيد، فاروق العوضي، راشد الحيان، حماد العجمي، عبدالله بداح العجمي (مراسل مجلة “الصقر” القطرية)، د. خالد الشرجي والباحث سلطان الباهلي، وكذلك هناك قلة من كتّاب الأعمدة يتمتعون بفكر نيّر، لكن قدراتهم جميعاً (المغردون وكتاب الأعمدة) في “الوصول إلى المصدر، التمحيص، التحقيق، التحليل، الرؤية البانورامية للأحداث، استخدام لغة الصحافة والصورة والعنوان والبحث” لا يمكن أن تقارن بقدرات الصحافي الرياضي المهني الذي “أعنيه”، وهذا لا يعيبهم على الإطلاق… فهم في نهاية المطاف “كفاءات” لم تتوافر لها بيئة التدريب، ومع ذلك فهؤلاء جميعاً أفضل من 90 في المئة من الصحافيين الرياضيين العاملين اليوم.
قال رئيس اللجنة الأولمبية الدولية توماس باخ في الدوحة في افتتاح أعمال كونغرس اتحاد اللجان الأولمبية الوطنية “أنوك” في العام 2016، منتقداً تقارير “غير دقيقة ومضخّمة للوقائع” كتبتها صحف عالمية عن أولمبياد “ريو 2016”: “هناك رأي عام [Public Opinion] ورأي مطبوع [Published Opinion]”… وصدق العم باخ.
كلمة أخيرة
لا ادعي أن العمل في صحيفة، لا يضاهيه إلا العمل في “ناسا”، لكن الصحافة الحقيقية مهنة لا يعرف قيمتها إلا الموهوب والمهني والمتنفذ، أما المرتزق فالصحافة بالنسبة له ليست سوى جواز مرور.
مرزوق العجمي